المحطة: المُقترَب الفكري للظهور الفلسفيّ عند اليونان

 

اليونان والشرق

لعلَّ من الأهمية بمكان أن نحاول الحديث عن المقترَب الذي كان قد ساهم في انبعاث التفلسف في بلاد اليونان وهو الفكر اليوناني المتفاعِل مع الفكر الشرقيّ، فمن الصعب في إطار التطور الفكريّ للمجتمعات ومع ازدياد الدراسات والبحوث الاجتماعيّة والنفسيّة والإنثروبولوجية، أن نبقى في إطار النظرة القديمة المرتبطة بالمركزيّة الأوربيّة التي تحاول أن تصوّر الظهور الفلسفيّ اليونانيّ بأنه معجزة ظهرت فجأة في تلك البلاد مقطوعة الصلة بما سبقها من مخاضٍ فكريّ محليًا أو عالميًا.

فحين نتحدث عن الفكر و الفلسفة اليونانية ، فإننا نتحدث عن واسطة العقد بين الشرق والغرب. فالفكر اليونانيّ كان المنفذ الذي دخل منه الفكر الشرقي إلى أوروبا القديمة، مثلما صار تفلسفهم -لاحقًا- المصدر الذي استمد منه الفلاسفة العرب المسلمون بواكير تفلسفهم ليكونوا الجسر الذي تعبر عليه إلى أوروبا الحديثة.

لا يخفى أن الشرق الأدنى القديم كان ومنذ بواكير الألف الثانية قبل الميلاد يمور بأسس الحضارة والفكر، في الوقت الذي كانت فيه ما تسمى ببلاد اليونان ليست سوى مستنقعات تشغل يابسها قرى بائسة، وهي الصورة التي نراها واضحة من خلال الكتابات التاريخيّة وكذلك في الحكايات الشعبيّة اليونانيّة، مثلما هو الحال بالحكايات المتعلقة بهرقل مثلًا. فلو عدنا إلى صور المهام التي تم تكليف هرقل بها من قبل الملك اوجياس لانكشف لنا مدى التخلّف والبؤس وانتشار المستنقعات وما تشكله من أخطار بيئية على سكانها، بالإضافة إلى الوحوش التي تصول وتجول في أنحائها، والتي لم يجد كاتب الحكايات مخرجًا لتحقيق أمنيته بالتخلص منها، إلا أن يتصدى لها ابن إله تعبيرًا عن صعوبتها.

ازدهرت حضارة العراق القديم منذ نهايات الألفية الثالثة قبل الميلاد، مترافقة مع حضارة وادي النيل في مصر، ليشع نورهما على ما حولهما، فبدأت تظهر بأثر منهما أو باحتكاك الحضارة الفينيقية ضمن ما يسمى الآن بلاد الشام والحضارة الحيثية في الأناضول (أو تركيا الحديثة)، واللتان كانتا الأقرب جغرافيًّا إلى اليونان، وهو ما ساهم بنقل أسس الحضارة والفكر إلى هناك. ولهذا نلاحظ أن بواكير الازدهار الفكريّ كان ضمن هذا الجوار والذي لم يكن ضمن اليونان الكبرى وبقي كذلك.

إن والآثار المكتشفة في قبرص وكريت تؤشر مصادر استمدادها، وتبيّن بوضوح الإسهام الشرقيّ هناك. كان الفينيقيون آنذاك سادة البحر المتوسط الذين نقلوا إليه منتجات الحضارة الشرقيّة وكذلك الفكر، مما ساهم بانبعاث أقدم مانعرف هناك من حضارات وهي الحضارة المسينية أو الموكينية في كريت وقبرص خلال منتصف الألف الثانية قبل الميلاد والتي تعد الخلفية الفكريّة للثقافة والفكر اليوناني الذي ستبدأ بواكيره بعد ما يقرب من نصف قرن، فلو أننا قرأنا الإلياذة والأوديسة لهوميروس لوجدنا صدى تلك الحضارة يثوي بين سطورها، وهكذا نلاحظ أن البحر المتوسط بات يتقدّم رويدًا رويدًا للارتقاء إلى مستوى حضاريّ عالٍ في الأجزاء المحاددة أو القريبة لذلك الشرق.

كان البدء انتقالًا لنمط التفكير الشرقيّ الذي اعتاد الباحثون على تسميته بالفكر الأسطوريّ، مع تحفظنا هنا على النظرة القاصرة لهذه التسميّة والتي ربما تشي ببدائية التفكير وفجاجته. فواقع الحال أن الأسطورة لم تكن سوى الثوب الذي ارتداه الفكر إبان تلك الفترة، فمثلما يتوسل الكتاب في عصرنا وسائلهم المختلفة من مقالة أو رواية أو قصة أو مسرحية لإيصال أفكارهم فإن الإنسان القديم في الشرق الأدنى اعتمد أسلوب التفكير المتاح لإيصال أفكاره وهو الأسطورة، ولهذا نلاحظ أن المحتوى الفكري العالي سرعان ما يستبين حين ننزع هذا الثوب والذي لا يختلف كثيرًا عن نمط تفكيرنا، مع الأخذ بالاعتبار مستوى التقدم الفكريّ والثقافيّ. ولهذا نلاحظ اشتراك العالم القديم بشرقه وغربه بذات النمط الأسلوبي وهو ما أتاح للفكر الشرقي أن يجد له حاضنة في بلاد اليونان.

وعليه فإن دراسة الأساطير بين الشرق الأدنى وبلاد اليونان تعد مفتاحًا مهمًا لفهم التنافذ والتثاقف بين الجانبين.

وإذا كان هوميروس بالإضافة إلى هزيود سدنة الثقافة اليونانية حينما صارت أعمال الأول تحديدًا أشبه ما تكون بالكتاب المقدس هناك، فإن هذه الأعمال لم تعكس فقط أثر الحضارة المسينية المتناثرة بالشرق فقط، بل وانطوت على شفرات فكريّة لا يمكن فهمها بوضوح إلا حين نفتش عنها في فكر الشرق كما سنرى.

فالفينيقيون بعد ارتقائهم في سلّم الحضارة وامتلاكهم القوة المؤهلة لهم للهيمنة على البحر المتوسط، تذرعوا بأكذوبة تسمح لهم بغزو البحر وهي الادعاء باختطاف (اوربا) ابنة ملكهم، وأنهم اقتحموا البحر بحثًا عنها، والغريب أن اليونانيين حين استكملوا قوتهم واستمدوا أسس حضارتهم من الشرق لم يهملوا استعارة هذه الأكذوبة بل اتخذوها ذريعة أيضا للحرب حين حاربوا طروادة الشرقيّة وتجييش الجيوش ضدها، بدعوى اختطاف (باريس) ابن ملكها لـ (هيلين) زوجة منيلاوس وهو أخ اجاممنون الذي سيكون قائد تلك الجيوش في الحرب.

 أكمل قراءة المقال على موقع المحطة


المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مأساة الفلسفة في العالم العربي

إن القرآن لا ينكر الفلسفة الحقة

هل يمكن الاستفادة من تراث الماوردي في التربية الحديثة؟