جريدة عمان: كيف دخلت كل هذه الكتب بيتي؟

مايكل ديردا
ترجمة أحمد شافعي

برغم أنني بعت أو تخليت عن قرابة 150 صندوق كتب في سنة 2020، لم تزل تصادفني تلك الدهشة الذاهلة لدى كل من يدخل قبوي أو علّيتي، فكأن تلك الدهشة ـ على حد تعبير شيرلوك هولمز ـ هي النقطة الوحيدة الثابتة في عصر متغير. أعترف أن عددا قليلا من الناس هم الذين عبروا عتبة بيتي خلال زمن محاذير كورنا هذا، ولكن أغلبهم لم يتجشموا حتى عناء سؤالي "هل قرأت كل هذه الكتب؟" مكتفين بالوقوف ذاهلين، وإن سمعت من بعيد بعضهم يغمغم "مسكينة زوجته" أو يحمد لله أنا عافاه مما ابتلى به غيره. من دواعي سروري ـ إن لم يكن من دواعي سرور أحد غيري ـ أن غرفة المعيشة في بيتي قد تبدو الآن أقرب إلى مكتبة متهالكة في ناد لندني بائس في قرابة عام 1895. وفي كثير جدا من الأحيان أستقر في مقعد رث قوائمه على شكل مخالب قط وفي يدي جرائد اليوم، فإنا أنني أزفر بوتيرة ثابتة، أو أتذمر قائلا إن العالم ماض على عجل إلى الجحيم.

في الأسبوع الماضي، استرخيت في الكرسي المشار إليه من قبل، في حلم يقظة وديع ـ وليس لي هواية غير أحلام اليقظة ـ وبدأت أتساءل: كيف دخلت كل هذه الكتب بيتي؟ لماذا تبدو أجزاء من هذا البيت الحجري الكولونيالي أشبه بجرن كتب في بنسلفانيا أو مخزن تابع لمكتبة بوليتكس آند بروس؟

تكمن الإجابة في عبارة مبتذلة هي "العقل الحائر". فلكوني عصاميا في جوهري، فإنني كلما وجدت في نفسي اهتماما بموضوع، أو بحقبة من التاريخ، أو بكاتب بعينه، أحاول أن أراكم جميع الكتب المهمة المرتبطة بالموضوع أو الحقبة أو الكاتب.

ومن حسن حظ سلامتي العقلية، أنني لم أشعر قط بالغواية القاتلة تجاه الحرب الأهلية الأمريكية، أو مسيرتي نابليون وهتلر، أو أربعة قرون النقد المكتوب في شكسبير. فهناك مناطق في الاقتناء والهوس كفيلة بأن تستولي ـ استيلاء مصاصي الدماء ـ على حيوات كاملة.

لكن لي مع الكتب نهجا معقولا للغاية في واقع الأمر، أو أن هذا ما أقوله لنفسي. فأنا أفضل الطبعات الأولى، والكتب ذات الأغلفة المقواة والتصميمات الجيدة، المحتوية على دراسات أساسية. ولكن منذا الذي لا يفضلها؟ وعلى مدار السنين كنت كلما أردت تعلم المزيد عن جول فيرن، والأدب الفنتازي، وأدب الخيال العلمي أو قصص الأشباح الكلاسيكية، تسكعت ـ إما على الإنترنت أو بصفة شخصية ـ مع الدارسين والقراء المحبين الذين يعرضون بكرم بالغ خبراتهم المعرفية. وتبين لي أن الكتاب الجيد سرعان ما يقود إلى غيره.

ولأضرب مثالا.

لم يكن وقت طويل قد مضى على مجيئي إلى واشنطن في السبعينيات، حينما تجولت في متجر كتب فصادفت نسخة بالية من كتاب "رسائل أوسكار وايلد" بتحرير روبرت هارت ديفيس. ولما كنت على دراية بقليل من أقوال وايلد الشهيرة ـ "صغار النفوس فقط هم من يعرفون أنفسهم" ـ فقد اشتريت الكتاب المؤلف من 900 صفحة بـ 15 دولارا وقرأته باستمتاع عظيم.

بعد عقد من ذلك، كنت المحرر المساعد لباب "عالم الكتاب" حينما كان كتاب "أوسكار وايلد" لريتشارد إيلمان هو الحدث الأدبي الأبرز المنتظر لعام 1988 في مجال الدراسات الأدبية. بعدما داهنت زملائي كي يسمحوا لي بكتابة مراجعة له، استعددت لذلك بأن قرأت للمرة الأولى "صورة دوريان جراي" و"الفنان ناقدا" وهو كتاب كان إلمان قد حرَّره من قبل وضمَّ منتخبات من أفضل مقالات ومراجعات وايلد وأبدعها في نقده للواقعية، و"تحلل الكذب": "ما من فنان عظيم يرى الأشياء على ما هي عليه في الحقيقة".

هذه المكتبة الأوسكارية الأساسية ـ المؤلفة من الرسائل البديعة، والسيرة الذاتية جميلة التعبير عميقة الأفكار، ونثر وايلد اللذيذ نفسه ـ فتحت لي بابا على العقد الأخير من القرن التاسع عشر. راغبا في معرفة المزيد عن لندن عند منعطف القرن وأدبها، بدأت في شراء الكتب. سيرة دبليو بي ييتس ـ على سبيل المثال ـ تخلد ذكرى ما يطلق عليه "الجيل المأساوي" ويتألف الجيل في الغالب من الفنان أودبري بيردسلي والعديد من شعراء نادي رايمرز [التقفويين] الذين ماتوا جميعا في شبابهم ومنهم الحزين المسلول إرنست داوسن: "كنت مخلصا لك، يا سينارا، على طريقتي". أما ذكريات برنارد شو وفنسنت أوسوليفان ـ وكذلك رسوم ماكس بيربوم الكاريكاتورية ـ فكشفت لي وجوها إضافية لوايلد ـ لا سيما حواراته ومغازلاته وبدانته المتزايدة ـ في حين أن رواية روبرت هايتشن الصادرة سنة 1895 بعنوان "القرنفل الأخضر" سخرت منه ببراعة في شخص إيسمي أمارينث. وأفضل من كل ذلك أنطولوجيا كارل بيكسن "Aesthetes and Decadents" التي استعرضت نخبة من كتاب المرحلة من بينهم آرثر سيمونز مؤلف "الحركة الرمزية في الأدب" (التي تركت أثرا على تي إس إليوت في شبابه) والشاعر المدمن على الخمر ليونل جونسن الذي قدم وايلد للورد ألفريد دوجلاس ثم مات لاحقا بوقوعه من على كرسي في حانة.

وبعيدا عن علاقة اللورد ألفريد دوجلاس المليئة بالغضب مع وايلد، فإن بوسي ـ حسب ما كان تدليل دوجلاس ـ يعيش في تاريخ الأدب ببيت شعر واحد "أنا الحبيب الذي لا يجرؤ أن ينطق اسمه". ولكن الهمسات الزاعقة منتشرة بعض الشيء. ولمعرفة المزيد عن بيئة العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر اشتريت سفر روبرت كروفت كوك الضخم "مأدبة مع الفهود" وكتاب تيموثر دارتش سميث الببليوجرافي "Love in Earnest" وكذلك تأريخ أندريه جيد لدراسته المبكرة لوايلد. ولمزيد من الفهم لعلاقات الكاتب الأيرلندي بالفرنسية ـ إذ كتب مسرحيته السادوماسوخية "سالومي" بالفرنسية ـ التهمت كتاب "أوسكار وايلد" ذا الطبيعة النمائمية لفيليب جوليان. وفي الوقت نفسه تقريبا، أثمر الصيد في متجر كتب خيري عن تسعة من ثلاثة عشر جزءا من أشهر الدوريات في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، أعني "الكتاب الأصفر". فعندما اعتقل وايلد بتهمة "الفاحشة" بعد أسابيع قليلة من الافتتاح المدوي لمسرحيته الكوميدية اللامعة "أهمية أن تكون إرنست" اعتقدت الشرطة (خطأ) أنه يحمل أحدث أعداد هذه المجلة الذي يحمل رسوم بيردسلي. أما عن دراما المحاكمة التالية نفسها، فقد رجعت فيها بصورة طبيعية إلى كتاب مونتجومري الآسر "محاكمات أوسكار وايلد".

وبتوالي السنين، جمعت بشكل غير ممنهج كتبا أخرى إما أنها كتبت بأقلام أرواح مبدعة كبيرة أخرى من القرن التاسع عشر أو كتبت عنها. وكلما ظهرت دراسات جديدة عن وايلد، كنت أكتب مراجعات لبعضها، كـ"نساء وايلد" لإلينور فتزيمونز، و"المبني من الكتب: كيف حددت القراءة حياة أوسكار وايلد" لتوماس رايت، و"صورة دوريان جراي: طبعة كاملة مزودة بالحواشي" من تحرير نيكولاس فرانكل. في عام 2018 جاء ماثيو ستورجس بكتابة "أوسكار" وهو سيرة جديدة وكبيرة طلبتها من إنجلترا لأنها لسوء الحظ لم تطبع قط في الولايات المتحدة. وفي نوفمبر الماضي فررت من الهبة الوبائية والهستيريا الترامبية بأن غمست نفسي في صفحاته الثمانمئة الآسرة (وسيئة التصحيح في الآن نفسه)، وحينما رفعت رأسي، كنا في ديسمبر.

وإذ ذاك كان الوقت قد حان لأفكر في موضوع لمقال عشية عيد الميلاد. ويبدو لي، بأثر رجعي، أنه كان محتوما أو قريبا من المحتوم أن أفكر في حكايات أوسكار وايلد الخرافية.

 -----------------

 

نشر المقال في واشنطن بوست في 6 يناير 2021 ونشرت الترجمة في جريدة عمان في 13 يناير 2021 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مأساة الفلسفة في العالم العربي

هل تخبرنا العلوم الطبيعية بالحقيقة؟ د.محمد باسل الطائي

إن القرآن لا ينكر الفلسفة الحقة